لم يأت لقاء البشير مع الصحافيين بجديد رؤية لحل الأزمة وإن اسخدام نبرة تراجع حذر. فبدلا من خطابه الاستفزازي، والملئ بالمهاترات تجاه معارضيه، والمتظاهرين ضد سلطته، بدا وكأنه يحاول التعقل احتيالا. فتراجعه تمثل في أمرين مهمين. الأول هو قناعته أن قانون النظام العام سئ في بعض أصوله، وكذا التطبيق. أما الثاني فهو قوله إن “من حق الشباب تحقيق تطلعاتهم”. إذن ما ضر لو أن اعتذر في اللقاء عن هياجه الخطابي في لفاته عبر المديريات إذا كان قد استمع لنفر من حادبي حزبه. وبالتالي يحقق حلم الشباب بإعلانه عن تنحيه بعد ثلاثين عاما من فرصة الحكم. ولكنه كان لقاء لمجرد الكلام كالعادة ثم افترق الصحافيون لا يلوون علي بينة من مشروع لحل مربط الأزمة. بل ذهبوا بلا معلومة جديدة غير بعض سيماءات التراجع في خطاب الديكتاتور.
تفادى البشير أن يكون المؤتمر صحفيا على نهج يسأل فيه صحافي ثم يجيب. فمداخلات معظم الصحافيين تحاشت محاكمة استبداد النظام بالأسئلة لتكون حول الحواشي، لا المتون. وبالتالي اكتفى السيد بالاستماع إلى الاّراء كيفما اتفق- تصيب أو قد تخطي – ولكن لا إجابات تبل روح المواطن. ومع ذلك لم يتحدث أحد عن انتهاكات كتائب النظام التي أذهقت قرابة الخمسين روحا. ولَم يتجاسر واحد ليطرح عليه فكرة تنحيه ما دام قد وجد كفايته من الحكم. ولَم يقل واحد عن مستقبل البلاد في ظل هذا الاستقطاب الذي سببته شخصيته المستهترة. كل ما في الأمر أن بعضهم أكثر من عبارة “سيدي الرئيس” رغم أنهم جميعا يعلمون أن رئيس القوم لا يقتلهم. لا بل يعلمون أنه ديكتاتور متعطش للدماء. فبئس الوقار الكاذب. وكيف يجوز لصحافي حر – يرجى منه – ويدرك المدى البائن لتكميم الديكتاتور للحريات، والصحافة، بينما تجده بين عبارة، واُخرى، يحلي كلامه بسيدي الرئيس؟!. زميلكم لا يملكه سيد. لا حقا، ولا مجازا، سواء في نظام ديكتاتور، أو نظام ديموقراطي. فالصحافي حر بحكم مهنته كونه لسان حال أمته. ومتى حاد المسؤول عن مصالح العباد حاصرناه بالسؤالات الحيوية حتى نشبع ضميرنا بالرضا.
في ما يتعلق بإقرار البشير بخطل بعض بنود قانون النظام العام، وتطبيقه، فالأمر مردود إليه. ولن يكون التراجع عنه رشوة للشباب على النحو الذي تمناه قوش حتى يهدأوا. فالمشكلة ليست في القوانين وحدها على ما فيها من سوء محرض للخروج إلى الشارع، وعن الحاكم كذلك. إنها تكمن في عقلية مشرع المشروع الحضاري الذي استنبطها ليحمل الناس حملا على الخضوع للاستبداد. فهذا القانون انتهك حرمات النساء أكثر من الرجال. ثم إن أمر الفشل يتعلق بخطل كل قوانين الدولة في السياسة، والاقتصاد، والثقافة، والفن، والزراعة، والصادر، والوارد، والاستثمار، وحتى البكور. والسؤال هو ما هو الشئ الذي جربه البشير ولَم ينقلب عليه.
إن التجريب بقوانينه، وتطبيقاته، على الشعب المسكين لم يجن له سوى الخراب المماثل لمشروع الجزيرة الذي ينعق فيه البوم. ولذلك قلنا إن لقاء البشير بالزملاء لم يأت بحل جديد.
بالنسبة لحديثه الذي يستشف فيه التراجع عن ما خص ثورة الشباب فإنه يقرر في موضوع لا يختلف فيه عاقلان. فتطلعات الشباب – شاء أم أبى – ستتحقق لأنهم هم الذين يرثون الأرض لفترة. وإذا كان قد وعى بهذا الآن فما الذي حمل زبانيته لتشويه هذه التطلعات السلمية، وربطها بأهداف حركة مسلحة، ومطامع مؤامرة إسرائيلية وكذا؟. غالب الظن أن ذلك يعني فشل البشير في فت عضد شباب السودان الذين أقسموا أن يسقطوه بس. الحقيقة أن بعض الصحافيين المتحدثين في لقاء البشير يزايدون على خلو شعار “تسقط بس” من الأهداف. يعتقدون أنه شعار عدمي، ولكن ما دروا أن وراء أي شعار ثمة أهداف تستبطنه، وتستتبعه. ومع ذلك لاحظنا أنهم يؤيدون شعار “تقعد بس” بالدس، والذي بالضرورة، وللأمانة، وتبرئة للذمة، له أهدافه، ومنها المزيد من فرص الانتهاز.
عموما، لا مشاحة من “حبة” تعقل للبشير حين يصل لخلاصة أن قوانينه، وتطبيقاتها، سيئة السمعة، وأنه يمكن للشباب تحقيق تطلعاته، وأن شريعته مدغمسة، وأن الأسد يحتاج للدعم العربي والإسلامي، وأن صلاح قوش لا يستحق الإعدام وإنما إرجاعه للخدمة، وأن إيران تمثل خطرا على سنة السودان، وأن إعدام مجدي وجرجس حلال بينما السمر مع ود الجبل قمة النشوة، وأن نظام البنوك ربوي، وهذا يراه السيد على عينك يا تاجر ثم يحذرنا ناسه من العلمانية. وهناك “كثير من أشياء كثيرة” يراجعها البشير، ولا يتراجع. وتلك هي ثورته الهوجاء.
إن معظم الصحافيين، والصحافيات، في زمن الإنقاذ ظلوا مصنفين لثلاثة أنواع. صحافي يريد أن يخدم ايديولوجيا حزبه الحاكم، وبالتالي حراكه مقيد بمرشده العقائدي. وآخر يريد أن يكون محايدا بين نظام الاستبداد والرأي العام المغلوب على أمره. وصحافي حزبي، أو مستقل، يحاول النضال من داخل الصحف لتمرير بعض أهداف تخدم مجتمعه. وقد لاحظنا أن النوع الأخير من الصحافيين مغيب دائماً عن مؤتمرات البشير الصحفية، ولقاءاته معهم. ولا شك أن فرص التحدث في لقاء البشير الأخير كان مقصودا لتجاوز الصحافيين الذين يعملون في صحف أحزاب. ولو كان هذا اللقاء محصورا لهؤلاء الصحفيين الحزبيين بإضافة النوع الثالث من الصحافيين، النضالي، لتمكنا للاستماع لوجهات نظر تضرب في اللحم الحي. ذلك أن البشير ليس لديه أصلا مشكلة مع النوع الأول والثاني من الصحافيين. فهم ينادونه بسيدي الرئيس. وبالتالي يراعون تجديد احترامه بين كل جملة وأختها، ما يعني عدم إغضابه عند تسميعه نبض الشارع الحي.
الديكتاتور جبان أمام هدير الشارع، ولعل بشارة التراجع الحذر المحتال للبشير ستجبره على الاستجابة لتطلعات الشباب بالكيفية التي يريدونها هم، وليس هو. أما الصحافيون المحايدون بين الديكتاتور والشعب فمرحى لهم هذه المهنية الباذخة.