صلاح شعيب
عدت لقراءة الإعلان الدستوري بتانٍ لمعرفة تمايزه عن مضمون مشروع السودان الجديد الذي بشر به الراحل جون قرنق زعيم الحركة الشعبيةلتحرير السودان فوجدت أن معظم ما نادى به قرنق مضمن في الوثيقة. والمؤكد أن الإعلان لم يخرج عن التقعيد الدستوري للدولة الوطنيةالتي فذلك قرنق،وآخرون، بعض معانيها المتصلة بمقاسمة السلطة، والثروة، والنفوذ. والشئ الملفت في الإعلان الدستوري أنه ينبهنا من خلالمواده إلى أن توافق قوى الحرية والتغيير بمختلف تقاطعاتها الفكرية، والأيديولوجية، إنما هو توافق مبني على قيم سودانوية أملتها الحاجةللتسوية أكثر من كونها توافقات على نهج مذهبي ديني، أو سياسي، أو ثقافي بعينه.
وهذا أمر أفرز شيئين مهمين: الأول هو أن التجربة السودانية المؤسسة لتعايش مركباتها المجتمعية فرضت على التفكير السياسي السودانيالمعاصر أن يعتمد على منهج داخلي لحل أزماتها، وليس الاعتماد على مهتديات فكرية مسبقة. أي أن منهج المعالجة للأزمة الوطنية مستقىمن أتون التجربة، وليس هو منهج تجريبي ايديولوجي على النحو الذي حققته الحركة الإسلامية بأن صبت السودان المتعدد في قالبهاالأحادي التفكير. الأمر الثاني لاعتماد التوافقات المتحالفة على موروثنا السياسي الاحترافي يوضح أن إعمال الحكمة السياسية للحفاظعلى وحدة البلاد أدعى لاستبطان أية ثمرة حلول قديمة، ومتجددة في الآن نفسه. وبالتالي أفرز اتفاق الفاعلين على المشهد السياسي علىالإعلان الدستوري استبطاناً لمشروع جون قرنق، سواء تم هذا بوعي المقنيين للإعلان، أو بلا وعيهم.
الصحيح هو أنه لولا التحيزات العرقية، والثقافية، والدينية، لما استقل إنسان الجنوب عن رصيفه الشمالي. فنحن ندرك أن الانجرار لمفاهيمالواقع المنتجة عبر الممارسة السياسية قد أنتج مرارا، وتكرارا، هذه التحيزات، والتي ما نزال بحاجة لتخطيها كليًة إذا أردنا عدم تكرار الحرب،بوصفها أكبر رد فعل لهذا التراث السياسي الذي أفرزته الدولة المركزية. ولو كنا قد توافقنا منذ فجر الاستقلال على تحقيق الفيدرالياتالثقافية لكفينا مواطنينا شر الاحتراب. ولكن يبدو أن القوى الممسكة بتفاصيل الدولة كان همها الأساس هو الحفاظ على جملة مصالحهاالتاريخية حتى لو أدى ذلك إلى فناء البلاد نفسها.
وبرغم رحيل جون قرنق، وانفصال الجنوب، ولكن تشريحه للأزمة السودانية في جانب منه كان سليما، وما يزال مؤثرا، ولا بد أن هناك قوىسودانية تنشد التغيير بناء على أطروحة السودان الجديد. فضلا عن ذلك، ما نزال في انتظار ما تفضي إليه مفاوضات السلام لنرى إن كنانعبر بالسودان نحو آفاق التعايش بفكر السودان القديم أم السودان الجديد. وسواء بقي قرنق بعيدا عن تشريع، وتنفيذ خطط سودان ما بعدالثورة فإن حضور أطروحته ملحوظ في درجة الوعي الذي فجره على مستوى المركز، ومناطق النزاع. ولعل كل ما حدث بعد التغيير يسير نحوتبني نهجه في ضرورة تحقيق الحرية، والعدالة، والمساواة في الحقوق حين ينطرح موضوع الثروة، والسلطة والنفوذ وكذلك هيكلة الدولةلتقطع مع زمان الهيمنة التي أكثر منها ممثلو الثقافة الإسلامية – العربية بينما قللوا فرص التعدد في توجه الدولة الملاحظة الأهم أن كل الشعارات والأدبيات التي اعتمدها الحراك الثوري نهلت من الموروث السودانوي بعيدا عن المرجعيات الدينية، والفكرية،والأيديولوجية. ولو كانت هناك أية انحيازات ايديولوجية، أو حزبية، لما تمكن كل السودانيين في دفع الحراك الثوري لتحقيق غاياته. في ذلكالحراك غابت أية إشارات لموروث حزبي، أو مناطقي، أو ايديولوجي، وبالتالي عبرت الهتافات، والأهازيج، الثورية عن عودة للروح السودانويةالعامة التي قفلتها تجربة الإسلام السياسي في الجرة المؤدلجة نعتقد أن الحصول على الدولة الوطنية الديموقراطية التي تساوي بين مواطنيها دونه خرط القتاد. وفي ذات الوقت ليس التمني وحده هو الذييحقق هذه الدولة. فالتحديات أمامنا ما تزال قوية، ومعقدة، بأي نهج حللناها. وينبغي أن نضع في الحسبان أن القوى التقليدية التي يسوءهاتقدمنا نحو تحقيق السودان الجديد الديموقراطي الذي يولد من رماد التاريخ المخزي للدولة المركزية ستظل قادرة على عرقلة التغيير مادامامتلاكها للمال، والإعلام، يؤهلها إزاء وضع المتاريس.
بجانب نهج التحليل الذي اعتمده قرنق مستندا على الصراع التاريخي بين المركز والأطراف كانت هناك أربعة مناهج تحليل للازمة السودانية. أولها منهج المدرسة الماركسية التي تغمس نظرتها في الصراع الطبقي تفكيكا ثم إعادة تركيبه وفق معطيات الواقع المحلي، وهناك المدرسةالعروبية التي تعتقد أن الامتداد الحضاري الجديد للسودان متصل بمصير محيطه العربي، وهناك المدرسة السلفية والأصولية التي ترى أنالإسلام هو الحل، فضلا عن وجود خطابات سياسية أخرى تتراوح بين التقليد والتحديث. وبرغم علو كعب نظرة السودان الجديد للتسوية بينالأقوام السودانية فإنها تصلح أكثر على مستوى التقعيد التشريعي للدولة مع حاجتها للاستناد علىبقية مناهج التحليل السودانية الأخرى،وربما ينطبق الأمر على كل مناهج التحليل السودانية في الاستلاف من بعضها بعضا عند النظر وعند بذل الحلول المجتمعية
الدولة الحديثة في عالمنا المعاصر عبرت تجارب كثيرة من التقعيد الديني، والأيديولوجي، والعرقي، والثقافي، وتتجه الآن انطلاقا من التجاربالديمقراطية المتقدمة للاستجابة لشروط أقوامها المتعددة، وجماعات المصالح التي تقيم فيها أو أهل المصلحة كما جرت الترجمة(stakeholders).
من خلال تاريخنا اتضح جليا أنه يصعب خلق الدولة الوطنية وفق منظور أيديولوجي، أو مذهبي سياسي واحد. كما اتضح ايضا أن الكلفةفي صراع المركز والأطراف كاد يعصف بوحدة الوجود السوداني بالإضافة إلى الكلفة السحيقة في إهدار الأرواح، والموارد، والزمن،والخبرات.
سواء عجز قرنق أن يفرض نموذجا تطبيقيا لتحليله السياسي في السودان – أو جنوب السودان – فإن بلادنا الآن قد خطت – رغم التحدياتالخطيرة الماثلة – نحو أولى الخطوات لتأسيس الدولة الوطنية، والتي لن تتجاوز على الإطلاق أطروحة السودان الجديد، استبطاناً أو اقتباساً،على النحو الذي أرانا الإعلان الدستوري روحها عند النظر لأبوابه التشريعية.